
يتمتع رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان بميزة غير موجودة في الكثير من الأنظمة الديكتاتورية الأخرى حول العالم؛ ألا وهي قدرته ومهارته على تحويل أي أزمة صعبة لصالحه. فأردوغان لا يزال يتمتع بشعبية تبلغ نحو 40% من الناخبين، بالرغم من الإفلاس الذي جعله سمة للدولة في العديد من المجالات سواء كان إفلاسا سياسيا أو اقتصاديا أو دبلوماسيا أو ثقافيا أو أخلاقيا. في تركيا توجد لعبة تعرف بالبهلوان المتأرجح؛ تقوم بضربه كما شئت، ولكنه لا يسقط على الأرض أبدًا أو يسقط على الأرض ولكنه سرعان ما يعود إلى ما كان عليه مرة أخرى بشكل مفاجئ. هذا هو حال أردوغان بالضبط.
ما أن اشتعلت شرارة وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) في البلاد، اختفى أردوغان لأيام عن الرأي العالم. ولم يظهر إلا مرتين فقط من أجل الإعلان عن حزم دعم الاقتصاد،
بعدها جلس في قصره ليوجه الحكومة من بُعد. ولكن جلوسه في قصره لم يكن قلة حيلة، وإنما تفكير عميق في كيفية تحويل الأزمة لصالحه لتتوالى بعدها حيل أردوغان في الظهور.
في البداية، بدأت وسائل الإعلام تنقل صور صناديق المساعدات التي أرسلتها تركيا إلى كل من إسبانيا وإيطاليا، وتحمل عليها شعار رئاسة الجمهورية التركية لا علم تركيا. في مثل هذه المساعدات يتم استخدام إما اسم الدولة أو اسم منظمة مجتمع مدني، ولكن أردوغان كان له رأي آخر، فقد قرر أن يكون كل شيء باسمه وحده.
كما قلنا من قبل، فإن عرش الحكم يعتبر بالنسبة لأردوغان أهم من أي شيء آخر. لذلك فإن أي شيء آخر يقف أمامه، ما هي إلا مجرد أمور فرعية. أردوغان لم يبالِ من قبل بتدهور الاقتصاد أو حتى تدهور العلاقات الاقتصادية مع الجيران والدول الأخرى، وإنما يهتم فقط بحماية عرشه.
تحركات أردوغان وخطواته لا تأتي من فراغ، وإنما تأتي من معرفته الجيدة لنفسية وروح المجتمع التركي. على سبيل المثال، قام أردوغان بتوزيع عبوات من الشاي على المواطنين قبيل انتخابات المحليات. في المقابل بدأت المعارضة السخرية من هذه الخطوة، ولكنه استمر على ما يقوم به، ونجح بالفعل؛ فالمجتمع حساس للغاية تجاه الأشياء التي توزع مجانًا، حتى وإن كانت صغيرة وبسيطة.
أردوغان استخدم الاستراتيجية نفسها في قرار توزيع الكولونيا على كبار السن ومن بعدها في التعامل مع أزمة الأقنعة الطبية (الكمامات). فهذه المرة كتب اسمه على عبوات الأقنعة الطبية الموزعة مجانًا على المواطنين، أي أنه أوضح للشارع التركي أنها هدية من أردوغان.
ولكنه قبل أن يتخذ هذه الخطوة، أصدر تعليمات وأوامر بحظر بيع الكمامات، بذلك لم يعد أحد قادرًا على شراء الكمامات بأمواله، ليضطر الجميع بذلك انتظار هدية أردوغان.
الأمر نفسه فيما يتعلق بإعلان أردوغان تبرعه براتبه الشخصي لمدة سبعة أشهر مقبلة بعد أن أعلن عن الحزمة الاقتصادية، فقد استقبل الشارع التركي القرار بشكل جيد. على الفور بدأ المواطنون يتغنون ويتحاكون بمدى كرم وعظمة أردوغان. ولكن الشعب نفسه لا يرى أو لا يريد أن يرى أن أردوغان يستخدم عشرات القصور المتبقية من الدولة العثمانية، وفي الوقت نفسه شيد لنفسه قصرًا مكونا من 1150 غرفة، بالإضافة إلى قصرين جديدين قيد الإنشاء، فضلًا عن الحصص التي يحصل عليها من كل مناقصة تطرحها الدولة (10% على الأقل)، وكذلك علاقته السرية بقطر وأميرها.
استراتيجية أردوغان لا تقتصر على تركيا فقط، فقد أوضح وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو في وقت سابق أن قرابة مائة دولة تقدمت بطلبات إلى تركيا للحصول على مساعدات، وأنهم أوصلوا بالفعل مساعدات إلى 34 دولة حتى الآن. عندما يكون الغرض هو التظاهر والبروباجندا بالتأكيد أردوغان لا يفوت هذه الفرصة.
أردوغان نفسه يعرف أيضًا أن معدلات البطاقة في تركيا تصل إلى 20%، وأن المواطنين يكملون الشهر بصعوبة بسبب عدم كفاية الدخل. ولكنه يؤثر على عقول المواطنين من خلال إظهار نفسه كريمًا في أعينهم عن طريق توزيع 1000 ليرة تركية على المواطنين (150 دولار تقريبًا)، وتوزع الكولونيا، والشاي والأقنعة. وللأسف المواطنون يقعون في هذه الخدعة ويصدقونها.
لم يكتفِ أردوغان بذلك فقط، وإنما يقطع الطريق أمام قنوات مساعدات حزب الشعب الجمهوري المعارض والبلديات التابعة له، من أجل أن يظهر أنه الوحيد القادر على تقديم المساعدات. فعندما حاولت وأرادت البلديات المعارضة توزيع الخبز والمواد الغذائية على الفور تدخلت وزارة الداخلية لوقف أعمال المعارضة، بقرارات من وزير الداخلية سليمان صويلو الذي أعلن استقالته ثم تراجع عنها بعد رفض أردوغان. كما منع أردوغان البلديات المعارضة من جمع أموال التبرعات خلال الشهر الماضي، حتى تكون حملة التبرعات التي أعلن عنها هو هي الخيار الوحيد أمام الشعب التركي.
ومن المتوقع أن يشن أردوغان المزيد من الحملات الجديدة، كلما زادت الأزمة الاقتصادية حدة. على سبيل المثال من الممكن أن يقوم بتوزيع المساعدات على المواطنين في بيوتهم، داخل أظرف مدون عليها اسم أردوغان. أو من الممكن أن يوزع عبوات مواد غذائية على المواطنين مدون عليها اسمه أيضًا.
أردوغان مضطر لحماية عرشه؛ فهو وحاشيته يعلمون جيدًا أنهم إذا رحلوا بشكل أو بآخر عن الحكم فإن مصيرهم سيكون سيئًا للغاية، لذلك فهو مضطر لحماية عرشه مهما كلفه الأمر.